خلف وجوه الممرضات المهاجرات.. حكايات تعبٍ وغربة في ممرات المستشفيات الألمانية

خلف وجوه الممرضات المهاجرات.. حكايات تعبٍ وغربة في ممرات المستشفيات الألمانية
ممرضة في مجال رعاية المسنين

في السنوات الأخيرة، كثّفت ألمانيا جهودها لاستقدام العاملين في مجال الرعاية الصحية من مختلف أنحاء العالم، حيث هناك أكثر من 300 ألف شخص غادروا أوطانهم ليهتموا بكبار السن والمرضى في بلدٍ يحتاج إليهم بشدة.

لكن وراء هذا النجاح الاقتصادي تكمن تساؤلات إنسانية عميقة.. هل يجد هؤلاء العاملون الراحة والاحترام في البلد الذي دعاهم؟ وهل سيبقون حقاً إذا لم يشعروا بأنهم جزء منه وفق تقرير نشرته شبكة "دويتش فيله" الألمانية؟

يشهد قطاع الرعاية الصحية في ألمانيا أزمة حادة بسبب نقص الكوادر الماهرة، خصوصاً في رعاية المسنين والمستشفيات، حيث يعتمد نحو ربع العاملين في دور رعاية المسنين على جنسيات أجنبية، ويأتي واحد من كل خمسة موظفين في المهن الصحية من الخارج، وتتفاقم الأزمة مع اقتراب عدد كبير من العاملين الحاليين من سن التقاعد، إضافة إلى مغادرة آخرين المهنة مبكراً نتيجة إرهاق العمل وارتفاع عبء الدوام مقارنة بالأجور، ما يزيد الضغط على النظام الصحي ويؤثر في جودة الرعاية المقدمة. وفي الوقت نفسه، يتزايد الطلب على خدمات الرعاية بسبب ارتفاع نسبة كبار السن في المجتمع، ما يجعل استمرار النقص في الأيدي العاملة مشكلة كبيرة تتطلب حلولاً عاجلة.

وتعتمد ألمانيا اليوم بشكل كبير على الهجرة العمالية لسد هذه الفجوة، لكن العاملين المهاجرين يواجهون تحديات إضافية تشمل تعلم اللغة الألمانية والتعامل مع اللهجات المحلية والإجراءات البيروقراطية، إضافة إلى صعوبات الاندماج الاجتماعي وتجارب التمييز والعنصرية أحياناً، ما يؤثر في قدرتهم على الاستقرار والبقاء في المهنة لفترة طويلة.

هجرة تحوّلت إلى صناعة

يقول الباحث الجغرافي ستيفان كوردل من جامعة إرلانغن نورنبرغ إن قطاع الرعاية بات يعيش ما يُعرف بـ"صناعة الهجرة"، إذ تتنافس الحكومات والشركات ودور الرعاية وحتى الوكالات الخاصة على استقطاب الكوادر المؤهلة من الخارج.

ويضيف الباحث توبياس فايدنغر أن العملية أصبحت أحياناً أشبه بطلب سلعة: "يطلبون خمسة متدربين من الخارج، وإذا غادر أحدهم، يُطلب بديل فوراً، دون النظر إلى الإنسان خلف الرقم".

تشير بيانات الوكالة الاتحادية للعمل في ألمانيا إلى أن نحو ربع العاملين في دور رعاية المسنين يحملون جنسية غير ألمانية، وأن واحداً من كل خمسة أشخاص في مهن الرعاية جاء من الخارج، ومع ارتفاع أعداد المتقاعدين ومغادرة كثيرين المهنة بسبب الإرهاق، يعتمد النظام الصحي الألماني اليوم على الهجرة أكثر من أي وقت مضى.

خلف الوعود الملونة واقع مختلف

يقول الباحثون إن الحملات الدعائية التي تعد بـ"حياة جميلة في برلين وهايدلبرغ" لا تعكس الواقع. كثيرون يُنقلون إلى مناطق ريفية معزولة، حيث تقل الخدمات ويصعب الاندماج، أحياناً يعتمد مكان العمل والمساعدة التي يتلقاها القادم الجديد على الحظ وحده.

وفي حين توجد برامج حكومية مثل "الفوز الثلاثي" مع دول مثل الفلبين والهند وتونس، تُظهر التجارب أن بعض الوكالات الخاصة تستغل المهاجرين عبر طلب مبالغ ضخمة، تصل إلى 12 ألف يورو، ما يدفعهم إلى العمل المزدوج لتسديد الديون.

في كثير من الدول، يحصل الممرضون على شهادات جامعية تخولهم أداء مهام طبية متقدمة. لكن عند وصولهم إلى ألمانيا يُفاجأ بعضهم بأن عملهم يقتصر على الرعاية الأساسية مثل الغسيل وإطعام المرضى، وتقول ممثلة الجالية الفلبينية ميان ديفيزا غراو إن الصدمة تكون كبيرة: “ممرضات يحملن شهادات جامعية لا يُسمح لهن حتى بوضع المحاليل الوريدية، يشعرن بالإحباط ويبدأن بالتساؤل.. لماذا جئنا؟”

عبء اللغة والعزلة

إتقان اللغة الألمانية يمثل تحدياً يومياً للعاملين الأجانب، تصف متدربة من فيتنام يومها: "أدرس اللغة في المساء وأعمل طوال اليوم، لا وقت للراحة ولا لحياة اجتماعية"، يضاف إلى ذلك صعوبة اللهجات المحلية والإجراءات البيروقراطية الطويلة، ما يجعل الدعم النفسي واللغوي داخل بيئة العمل أمراً ضرورياً للاستمرار.

كما يرى الباحثون أن تحسين ظروف العمل لا يحتاج دائماً إلى قرارات ضخمة، بل إلى تفهّم إنساني، وعلى سبيل المثال، يمكن اعتماد نوبات عمل خاصة للأمهات تبدأ في وقت متأخر حتى يتمكنّ من إيصال أطفالهن إلى الحضانة، وهذه الخطوات الصغيرة لا تفيد المهاجرين فحسب، بل جميع العاملين والمرضى أيضاً.

كما أن تحسين وسائل النقل في الليل وتوفير سكن قريب من أماكن العمل يمكن أن يخفف كثيراً من الضغوط اليومية.

العنصرية.. الجرح الصامت

كشفت الدراسة أن كثيراً من العاملين الأجانب في مجال الرعاية يواجهون تمييزاً عنصرياً، تقول امرأة من غينيا تعيش في ألمانيا منذ أكثر من عشر سنوات: "سيواجه القادم الجديد بالتأكيد مواقف عنصرية".

ورغم جهود التوعية داخل المؤسسات، فإن المرضى وأقاربهم غالباً ما يعبّرون عن مواقف عنصرية علنية، كأن يرفض أحدهم أن يتلقى الرعاية من شخص أسود، هذه التجارب المؤلمة تترك أثراً عميقاً وتدفع بعضهم للتفكير في الرحيل إلى دول أخرى أكثر ترحيباً مثل كندا.

بين البقاء والرحيل

يقول الباحث ستيفان كوردل إن شعور الممرض أو الممرضة بالانتماء لا تحدده الرواتب، بل المجتمع بأسره، فمن يشعر بالأمان والاحترام سيبقى، ومن يتعرض للتمييز سيغادر.

ويختصر أحد المشاركين في الدراسة الفكرة قائلاً: "سأبقى حيث أجد نفسي بين أصدقاء، لا أتعرض للتنمر، وتشعر عائلتي بالطمأنينة".

يؤكد الباحثون أن ألمانيا بدأت تفهم أهمية "ثقافة الترحيب"، لكنها لا تزال بحاجة إلى ما يسمونه "ثقافة البقاء" التي تضمن للوافدين حياة مستقرة ومتكافئة على المدى الطويل، فحين تكون ظروف العمل والمعيشة جيدة للجميع، سيبقى من جاء بحثاً عن الأمان، وسيشعر أنه أخيراً وجد وطناً.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية